الخميس، 10 أكتوبر 2013

الفصل الخامس .... مدد

مدد

----


أغلق الباب خلف الولد ولم يفتح بعد ذلك إلا عند بداية المساء ، عندما عاد الضيف ، بعد ذهابه لزيارة أولياء الله الصالحين         - بعدما ضاقت به الدنيا وأعيته الحيل - عله يجد فرجة من هذه الضائقة وراحة من هذا العناء . كانت دهشة " لعم ابراهيم " عندما أخبره الضيف فى الصباح أنه ذاهب لزيارة " سيدنا الحسين " ، فقد كان يعرف عنه أنه - مثل كثير من بلديانه - لا يصلى إلا صلاة العيد بعد زيارة المقابر ، أو صلاة الجمعة أحيانا عندما يريد ابداء الحفاوة بضيف مهم . فهو لا يعلم عن ذلك العالم الإلهى مايجذبه إليه ، والأكثر من ذلك دهشته وتعجبه عندما أخبره الضيف - بعد عودته - بأن كانت فى هذه الزيارة الراحة التى مابعدها راحة ، وخير لا يعادله خير، وبركة وانعام وفرجة من كل ضيقة وأنه لكان يتمني أن يقضي بقية عمره هناك وأنه مع العسر دائما اليسر ، وأى يسر ! ومع كل ضائقة يأتي الفرج من حيث لا تعلم . زالت دهشة "عم ابراهيم" عندما اشتم عبق المكان الذى  اختطلت فية رائحة الاناء برائحة الخل والثوم التي تنبعث من فم الضيف ، لتشي به وتنم عن الهدف الخفي الذى كان وراء الزيارة " لسيدنا الحسين " ، والتي كان فيها كل الراحة ، والخير، والبركة والانعام ، والفرجة من الرحمن .   كانت الرائحة تدل علي بعض ما حدث وليس كله ، ولو كانت أمينة في دلالتها، وافية في وشايتها لأدركنا ما حاق بهذا الرجل من ذل وهوان ، وأن كيف تمني هذا الرجل - آنذاك - لو أن تنفرج الأرض لتبتلعه وتخلصه من مشهد يوم ذليل، ولرأينا دموع الرجال وهي تنهمر في صمت وتحسر، ولرأينا كيف كانت نظرات الذين هبط عليهم لمشاركتهم الوليمة التي سيقل نصيبهم منها عند القسمة ، وهو قد أضيف إليهم بدون وجة حق ، حيث إنه غير محترف التسول ولا أحد من هؤلاء المحترفين قد قام بتعينه بينهم في هذا المكان الذى يتوافد إليه المتصدقون من كل الأنحاء وكأنه لا يوجد محتاجون إلا هناك ، أو أن الله لا يتقبل الصدقات إلا بتقديمها بهذة الطقوس عند أولياء الله الصالحين . كانت نظراتهم إليه كالأعيرة الناريه التي لم تخطئ الهدف بحيث جعلته ينزوى ويلعن في نفسة كل الظروف التي ساقته إلي هذا المكان وهذا العرض المشين، وقد اقسم عند المغادرة انه لو كان قد علم الغيب ما كان فارق بلدته ولا جاء هنا لملء معدته التي كان من الافضل لها أن تبقي خالية يمزقها الجوع عن أن تمتلئ بما ينغصها ويحقر من شأن صاحبها . كان قد شاهد ابن عمته هناك بين المتصدقين الذى تجاهله حيث إن بينهم خلافات متوارثة أغلبها مفتعلة ، وخلافات معاصرة تأتي لتأكيد الفرقة بين الطرفين - الغني والفقير. تعجب الرجل من حال ابن عمته هذا وتذكر حجا عندما سئل أن يشير إلي أذنه وتأكد له أن الانسان يكره بطبعه الاشاره إلي القريب ، خاصة إذا كان هذا القريب رقيق الحال ، واستنتج أن أذن جحا القريبة كانت لابد عارية ، بينما كان يزين الذهب الأخرى البعيدة . أدرك "عم ابراهيم" كل ما كانت تخفيه كلمات الضيف - عندما تفحص وجهه - أن كانت في الزيارة ضيقة ما بعدها ضيقة ، وعناء لا يماثلة عناء وأنه ليدعو الله أن يقضي ما بقي له من سنين أو أيام دون خوض معركة كهذه، التي هي مع النفس ومع كل شئ . كان قد خبر "عم ابراهيم"- في بدايه عهده بالمدينة- تجربة كهذة ذات مرة ، تعلم وقتها أن عزة النفس أغلي بكثير من ملء البطون ، وذلة النفس لا يعوضها كنز الكنوز. وتأكد وقتها من أنه إذا رضي لنفسه الذلة والهوان وذهب ثانية فسوف يأبي محترفو التسول ضمه إليهم وربما عاد من هناك 
مربط الأطراف وقد كسي السائل الاحمر المطهر معظم وجهه المتورم .......              عادت الابنة التي كانت قد ذهبت منذ الصباح عند احدى الجارات - الأحسن حالا - لمساعدتها في غسيل الملابس والستائر والسجاجيد وتدبير المنزل الذى كان يستعد لاستقبال صاحبه - العائد من رحلة الحج - وفي يدها حقيبه من القماش سلمتها لأمها التي وضعتها باستخفاء في ركن من الجحرة دون فتح أو تعليق . كانت الحقيبة تحوى كل ما يؤكل ويلبس في جحرة كهذه، أما في البيوتات التي جائت منها فهي لا تصلح إلا أن تكون أجرا ذهيدا لمن جائت للغسيل والتدبير والخدمة.جائت البنت منهكة ، مطبقة الفم والأمعاء ، يغلبها النعاس نتيجة قيامها بأعمال لا تتناسب مع سنها من غسيل للملابس والسجاجيد يعقبه تنظيف وتجفيف الأرضيات، ثم غسيل الأواني والصحون الذى يتبعه المساعدة في الطهي - التي هي أشق علي البدن والنفس من الطهي نفسه - لكل ما لذ وطاب من الطعام والمساعدة في تقديمه في أحسن تنسيق ، عله يتغلب علي الشهية المفقودة . ثم بعد ذالك يأتي غسيل الآنية ثانية بعد الاكل- الذى يعتبر الشئ الوحيد الذى لم تساعد فيه . فطوال هذا اليوم الحافل بالعمل - المنهك للبدن والأعصاب - لم يستقبل جوف البنت كسرة خبز، حيث لا وقت لهذة الامور المعطلة ، وهي قد جاءت لخدمتهم لا ليخدمونها هم.عقب الانتهاء من هذا اليوم العصيب من العمل بادرتها صاحبه الدار باعطائها الحقيبة وهي تتعجلها بالرحيل نظرا لأن المساء قد حل . وكذلك فالحقيبة تحتوى علي كل شئ فيكون الأكل وسط الأهل أفضل . ثم أوصتها أن تطرى أمها السلام وتطلب منها الدعاء لصاحب الدار أن يعود سالما وأن يديم الله عليه تصدقه وبره بهم وبأمثالهم.وفي النهاية أن علي البنت أن لا تأتي ثانية إلا إذا أرسلت صاحبة الدار في طلبها بنفسها  , وأن عليها أن تأكل قبل الحضور لأنها ستعمل طوال اليوم دون طعام ، حيث لا وقت لذلك ، وفي هذا ما لا يرضي ربنا. قهر التعب والاجهاد جسد البنت وغلبها النوم بمجرد انجحارها وتسليم امها الحقيبة ووصية السيدة. رقدت وكانت ملابسها مازالت مبتلة من أثر العمل ولم توقظها صرخات أمعائها ولانداءات أمها عند تقديم العشاء ، الذى امتنع عنه الضيف أيضا متعللا بعدم شهيته للأكل دون سبب يعلمه الذى ربما يكون (لفحة برد). لم يلح "عم ابراهيم" علي الرجل متظاهرا بتصديقه، فهو يعلم جيدا - ولا ينبئك مثل خبير- أن كثرة الالحاح قد تؤدى إلي انفجار الرجل بالبكاء وكشف المستور. وهو يعلم جيدا أن الرجل قد فعل كل ذلك وتعرض لهذة المهانة والمذلة كي يعفيه من مشاركتهم وليمة العظم  التي كان قد انبأه "عم ابراهيم" أنها ستكون في انتظاره عند العودة ، فأراد الضيف أن يستمتع بها أصحابها وحدهم حتي لا يؤدى ذلك مع طول الاقامة إلي الضيق به واعتباره ضيفا ثقيلا ......