الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

الفصل الثالث ... ويل للمطففين

                الفصل الثالث 

ويل للمطففين

-------


ولأن الحاجة أم الاختراع ، فقد اكتشف الولد مايعفيه من سؤال المعلم اطعامه او التماس مال أبيه .  اهتدى " على " الى اسكات صرخات الجوع بأن يقوم بقضم جزءا صغيرا من بعض الخبز أثناء حمله فى "الصاج " لنقله ، ويظل على ذلك طالما ظل جائعا حتى يشبع تماما وكان فى كل ذلك حريصا أشد الحرص أن لا يفتضح أمره بأن يلحظ أحد ذلك أو أن يبدو ذلك ظاهرا على الخبز وينم عن فعلته ويشى به عند من لايرحم . كان قد أصبح ماهرا فى تنظيم العمل فيما يختص بالذهاب والاياب والقضم والمضغ ... كل فى توافق ونظام محكم مابعده أحكام ! ... فالحاجة أم الاختراع ! .... ولكن ايضا تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن ! ويبدو أن هاتين الحكمتين متلازمتين دائما ، متتابعتين بنفس الترتيب فى كل مرة .  كان " الشيخ محمد " - امام مسجدالحى - يتردد على     المخبزلشراء مايلزمه من خبز وكان لاينسى فى كل مرة أن يقوم بتحية  " المعلم رابح " الذى كان يجلس دائما فى مكانه المخصص فيقوم " المعلم " بتوصية الصبى باختيار أجود الخبز وأكبره " لعمه الشيخ " الذى كثيرا ماكان ينهر الصبى سائلا اياه أن يراجع العدد ويكرر عليه فى كل مرة أن أدوا الأمانات الى أهلها .  لكن فى ذلك اليوم زاد " الشيخ محمد " عن التحية بعض شىء بأن نظر فى وجه المعلم رابح " - الذى كان ينفث الدخان من فمه وأنفه بمتعة يبدو منها أنه آت لتوه بعد تناول وجبة " دسمة لذيذة -  وقال له الشيخ مبتسما : " -- يعنى مابتجيش تصلى معانا ياحاج ؟ " ... قال ذلك بكثير من التودد المتصنع وقد ملأه الأمل أن قد يصيبه بعض من هذه الوجبات . أجاب المعلم وهو يشير بوجهه ناحية المخبز قائلا : " -- شغل ياشيخ .... شغل . "  عاجله الشيخ قائلا : " -- الصلاة عماد الدين ثم علا صوته وقال بتلقائية تلميذ يردد تحية العلم : " من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمهااااا فقد هدم الدين و...... قاطعه المعلم بنظرة اخرسته قائلا : -- ماهو العمل عبادة برضه يامحمد ثم نظر إلى يد الشيخ وهو يتناول الخبز من الصبى وقال : ولا اييييه ؟    رد الشيخ وقد عاد إليه النطق والوعى قائلا :  هذا صحيح ... صحيح والله .. العمل عبادة وربنا يقويك "   التفت المعلم ناحية الصبى الذى ناول الشيخ الخبز وقال : " نقى حاجة كويسة ياواد لعمك الشيخ وزود له رغيف كمان .... ربنا كريم " قال الشيخ متهللا " -- ونعم بالله ! .. اللهم قوى ايمانك ياحاج ! "    قال المعلم وقد هدأت حدته اثر اعتدال الشيخ : " -- اديك شايف يامحمد بأكل كام صبى هنا أهاليهم مش قادرة تأكلهم .. مش دى عبادة برضه ؟ ... والا نتمنظر ونروح على الجامع ونيجى من الجامع واحنا بنشحت الرغيف وتبقى دى هى العبادة ؟  .... احنا بنعمل مننا لربنا على طول مش بنتمنظر... احنا عارفين القرآن كله بس الحاجات دى هنا (مشيرا الى منتصف صدره ) ... والا ايه ياشيخ ؟ "   اجاب الشيخ بسرعة :  -- نعم ! ... اللهم قوى ايمانكم ! "  وردد وقد وقعت عينيه على الصبى وهو يضع الرغيف الزائد قائلا : -- اللهم أطعم من أطعمنا ! اللهم أطعم من أطعمنا ! ......... . أرأيت من كان الهه رغيف من الخبز ؟ ! ... رغيف واحد لاشريك له ! وإن كان له  شريك فى الخبز فالزيادة بركة .... والشرك خير !    .... صدق المنافق الدنىء !!          كان يتابع " على " كل ذلك بدهشة انسته متابعة سير عمل قطعة الخبز والنظام الذى يتبعه فى رحلته ذهابا وايابا ،  دهش الولد من هذا الحوار بين الشيخ محمد " والمعلم " حول الموضوع ذاته الذى كان قد دار حوله الحوار امس فى نفس المكان بين هذا الشيخ وأحد عمال المخبز الذى كان يقوم بتوزيع الخبز خارج المخبز مقابل ربح زهيد ، ولكن كان الاختلاف كل الاختلاف فى الحديث بأن ظل " الشيخ محمد " يترافع ويصول ويجول مؤكدا بأن الصلاة هى عماد الدين ولابد منها مهما حدث ، حتى وإن ماتت عيالك من الجوع فإنه يجب أن تترك كل عمل وتذهب لاقامة الصلاة ... الصلاة التى هى عماد الدين والتى إن اقيمت اقيم الدين وإن هدمت فقد هدم الدين وكيف أن تارك الصلاة كافر ، كافر مهما فعل من حسنات فمصيره النار خالدا فيها ، وكيف أن الكفر لاتنفع معه لاتجدى أى طاعة بينما لاتضر مع الايمان معصية . كانت الصدمة قوية للولد الذى كان قد ورث عن أبيه وعن أمه أن " الشيخ محمد " هو الدين ، وهو الفاصل فى كل شىء وإليه الرجوع وقت الحيرة فى أمر من أمور الدين ، أو هو كذلك الحكم العدل عندما تستنجد به "أم على " عند تأزم الأمور بينها وبين زوجها ، وكذلك كان يفعل أبوه عندما كان غضب على زوجته ويذهب إلى " الشيخ محمد " ليقوم بنصحها وهدايتها وكيف كان كذلك يستفتيه فى أمور الدين الخاصة بوقوع يمين الطلاق الذى كان قد أقسمه ، أو ماإذا كانت تسقط عنه زكاة الفطر لفقره أو إلى ماغير ذلك من الأمور الدينية . تناول الشيخ الخبز من الصبى وهو يكرر دعائه موجها بصره نحو المعلم ثم توجه بالحديث نحو " على " الذى كان يمر من أمامه فى تلك اللحظة عائدا "بالصاج " الخاوى يفيقه صوت الشيخ من 
تأملاته وهو يقول : " ويل للمطففين " . انتبه الولد ولكنه لم يفهم فلم يتوقف واكتفى بالنظر إلى الشيخ ومضى من غير تعقيب . وعند مروره مرة اخرى وكان قد توقف عن قضم الخبز بعدما شعر بعدم ارتياح لسير الأمور رغم عدم ادراكه السبب فقد توقف عن القضم والمضغ تحسبا لأى مفاجأة وزيادة فى الاحتياط . نظر الشيخ فى عينيه وهو يشير إليه أن يتوقف قائلا " ويل للمطففين " . ادرك الولد أنه لابد من الرد ولابد أن هناك شيئا ما يقصده الشيخ ولكنه لم يدرك ماهو فقال فى حيرة ظاهرة ويده تتحسس حول فمه بتلقائية بريئة : " -- متفتفين ازاى ؟ " . قال الشيخ بسرعة وقد ارتفع صوته " -- ويل للمطففين " . ارتبك الولد ونظر فى أركان المخبز عله يجد مايريده الشيخ وقال : "  -- يعنى عاوز ايه ياشيخ محمد ؟ " . قال الشيخ : " --  يعنى عاوز اقول إن العيش اللى انت عمال تاكل فيه ده رايح جاى حرام .... أنت من المطففين ويل لك بمعنى أن العذاب لك ولأمثالك من الله عز وجل ، البصير، شديد العقاب وأخذ الشيخ فى سرد السورة حتى أتى على آخرها . أخرست كلمات الشيخ " عليا " ونظر تحت قدميه عساه يهتدى إلى ما ينقذه من هذه الكارثة التى حاقت به على يد الشيخ . كان الشيخ يردد كلمات الآية فى صورة خطبة منبرية وهو يوجه بصره نحو المعلم عقب كل وقفة وكأنه يترقب انفجار قنبلة كان قد اشعل فتيلها لاتخاذ اجراء مناسبا تجاه حالة التلبس هذه التى كشفها من هو حصيفا نابها لكل ما من شأنه الضرر بالرجل الكريم ، وكان ايضا فى ترديد الكلمات بصوت جهورى تهديد قصده الشيخ وانزعج منه المعلم أيما انزعاج . هب المعلم ببديهة لينقذ الموقف بكل ماءوتى من قوة بأن امسك الولد من أذنه بيده اليسرى وهال بيده الأخرى - وكأنها مطرقة حداد - فوق رأس الولد الذى شعر بالدم الخارج من لسانه الذى قضمته أسنانه عند اصطكاكها اثر اللكمة ثم عاد الوعى - وقد غاب لحظات - للولد وكانت عودة الوعى تسبق عودة الرؤية التى غابت وقت اطول ليكتشف " على " أن زراعه الأيسر قد كواه  " الصاج " الساخن عندما دفعه المعلم نحوه وهو يلكمه قائلا :   يابن الحرام هاتبوظ
سمعتنا فى الحتة ... داحنا طول عمرنا بتوع ربنا..... . صاح الشيخ محمد  قائلا :آي والله ... وكرما كمان يامعلم  . انفلت الولد خارجا يملأه الغل والغيظ المكتوم ثم جعل بصره فى اتجاه الشيخ وقال بصوت عال والدموع تملا عينيه :  ياشيخ محمد ؟  . تطلع الشيخ إلى الولد مستفسرا . صاح الولد وهو يستعد للهرب واضعا يده على زراعه المكتوى والدم 
يسيل من فمه قائلا : ويلون للخباصين ...... ياخباص يابن الخباصة .

الفصل الرابع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق