الخميس، 10 أكتوبر 2013

الفصل الخامس .... مدد

مدد

----


أغلق الباب خلف الولد ولم يفتح بعد ذلك إلا عند بداية المساء ، عندما عاد الضيف ، بعد ذهابه لزيارة أولياء الله الصالحين         - بعدما ضاقت به الدنيا وأعيته الحيل - عله يجد فرجة من هذه الضائقة وراحة من هذا العناء . كانت دهشة " لعم ابراهيم " عندما أخبره الضيف فى الصباح أنه ذاهب لزيارة " سيدنا الحسين " ، فقد كان يعرف عنه أنه - مثل كثير من بلديانه - لا يصلى إلا صلاة العيد بعد زيارة المقابر ، أو صلاة الجمعة أحيانا عندما يريد ابداء الحفاوة بضيف مهم . فهو لا يعلم عن ذلك العالم الإلهى مايجذبه إليه ، والأكثر من ذلك دهشته وتعجبه عندما أخبره الضيف - بعد عودته - بأن كانت فى هذه الزيارة الراحة التى مابعدها راحة ، وخير لا يعادله خير، وبركة وانعام وفرجة من كل ضيقة وأنه لكان يتمني أن يقضي بقية عمره هناك وأنه مع العسر دائما اليسر ، وأى يسر ! ومع كل ضائقة يأتي الفرج من حيث لا تعلم . زالت دهشة "عم ابراهيم" عندما اشتم عبق المكان الذى  اختطلت فية رائحة الاناء برائحة الخل والثوم التي تنبعث من فم الضيف ، لتشي به وتنم عن الهدف الخفي الذى كان وراء الزيارة " لسيدنا الحسين " ، والتي كان فيها كل الراحة ، والخير، والبركة والانعام ، والفرجة من الرحمن .   كانت الرائحة تدل علي بعض ما حدث وليس كله ، ولو كانت أمينة في دلالتها، وافية في وشايتها لأدركنا ما حاق بهذا الرجل من ذل وهوان ، وأن كيف تمني هذا الرجل - آنذاك - لو أن تنفرج الأرض لتبتلعه وتخلصه من مشهد يوم ذليل، ولرأينا دموع الرجال وهي تنهمر في صمت وتحسر، ولرأينا كيف كانت نظرات الذين هبط عليهم لمشاركتهم الوليمة التي سيقل نصيبهم منها عند القسمة ، وهو قد أضيف إليهم بدون وجة حق ، حيث إنه غير محترف التسول ولا أحد من هؤلاء المحترفين قد قام بتعينه بينهم في هذا المكان الذى يتوافد إليه المتصدقون من كل الأنحاء وكأنه لا يوجد محتاجون إلا هناك ، أو أن الله لا يتقبل الصدقات إلا بتقديمها بهذة الطقوس عند أولياء الله الصالحين . كانت نظراتهم إليه كالأعيرة الناريه التي لم تخطئ الهدف بحيث جعلته ينزوى ويلعن في نفسة كل الظروف التي ساقته إلي هذا المكان وهذا العرض المشين، وقد اقسم عند المغادرة انه لو كان قد علم الغيب ما كان فارق بلدته ولا جاء هنا لملء معدته التي كان من الافضل لها أن تبقي خالية يمزقها الجوع عن أن تمتلئ بما ينغصها ويحقر من شأن صاحبها . كان قد شاهد ابن عمته هناك بين المتصدقين الذى تجاهله حيث إن بينهم خلافات متوارثة أغلبها مفتعلة ، وخلافات معاصرة تأتي لتأكيد الفرقة بين الطرفين - الغني والفقير. تعجب الرجل من حال ابن عمته هذا وتذكر حجا عندما سئل أن يشير إلي أذنه وتأكد له أن الانسان يكره بطبعه الاشاره إلي القريب ، خاصة إذا كان هذا القريب رقيق الحال ، واستنتج أن أذن جحا القريبة كانت لابد عارية ، بينما كان يزين الذهب الأخرى البعيدة . أدرك "عم ابراهيم" كل ما كانت تخفيه كلمات الضيف - عندما تفحص وجهه - أن كانت في الزيارة ضيقة ما بعدها ضيقة ، وعناء لا يماثلة عناء وأنه ليدعو الله أن يقضي ما بقي له من سنين أو أيام دون خوض معركة كهذه، التي هي مع النفس ومع كل شئ . كان قد خبر "عم ابراهيم"- في بدايه عهده بالمدينة- تجربة كهذة ذات مرة ، تعلم وقتها أن عزة النفس أغلي بكثير من ملء البطون ، وذلة النفس لا يعوضها كنز الكنوز. وتأكد وقتها من أنه إذا رضي لنفسه الذلة والهوان وذهب ثانية فسوف يأبي محترفو التسول ضمه إليهم وربما عاد من هناك 
مربط الأطراف وقد كسي السائل الاحمر المطهر معظم وجهه المتورم .......              عادت الابنة التي كانت قد ذهبت منذ الصباح عند احدى الجارات - الأحسن حالا - لمساعدتها في غسيل الملابس والستائر والسجاجيد وتدبير المنزل الذى كان يستعد لاستقبال صاحبه - العائد من رحلة الحج - وفي يدها حقيبه من القماش سلمتها لأمها التي وضعتها باستخفاء في ركن من الجحرة دون فتح أو تعليق . كانت الحقيبة تحوى كل ما يؤكل ويلبس في جحرة كهذه، أما في البيوتات التي جائت منها فهي لا تصلح إلا أن تكون أجرا ذهيدا لمن جائت للغسيل والتدبير والخدمة.جائت البنت منهكة ، مطبقة الفم والأمعاء ، يغلبها النعاس نتيجة قيامها بأعمال لا تتناسب مع سنها من غسيل للملابس والسجاجيد يعقبه تنظيف وتجفيف الأرضيات، ثم غسيل الأواني والصحون الذى يتبعه المساعدة في الطهي - التي هي أشق علي البدن والنفس من الطهي نفسه - لكل ما لذ وطاب من الطعام والمساعدة في تقديمه في أحسن تنسيق ، عله يتغلب علي الشهية المفقودة . ثم بعد ذالك يأتي غسيل الآنية ثانية بعد الاكل- الذى يعتبر الشئ الوحيد الذى لم تساعد فيه . فطوال هذا اليوم الحافل بالعمل - المنهك للبدن والأعصاب - لم يستقبل جوف البنت كسرة خبز، حيث لا وقت لهذة الامور المعطلة ، وهي قد جاءت لخدمتهم لا ليخدمونها هم.عقب الانتهاء من هذا اليوم العصيب من العمل بادرتها صاحبه الدار باعطائها الحقيبة وهي تتعجلها بالرحيل نظرا لأن المساء قد حل . وكذلك فالحقيبة تحتوى علي كل شئ فيكون الأكل وسط الأهل أفضل . ثم أوصتها أن تطرى أمها السلام وتطلب منها الدعاء لصاحب الدار أن يعود سالما وأن يديم الله عليه تصدقه وبره بهم وبأمثالهم.وفي النهاية أن علي البنت أن لا تأتي ثانية إلا إذا أرسلت صاحبة الدار في طلبها بنفسها  , وأن عليها أن تأكل قبل الحضور لأنها ستعمل طوال اليوم دون طعام ، حيث لا وقت لذلك ، وفي هذا ما لا يرضي ربنا. قهر التعب والاجهاد جسد البنت وغلبها النوم بمجرد انجحارها وتسليم امها الحقيبة ووصية السيدة. رقدت وكانت ملابسها مازالت مبتلة من أثر العمل ولم توقظها صرخات أمعائها ولانداءات أمها عند تقديم العشاء ، الذى امتنع عنه الضيف أيضا متعللا بعدم شهيته للأكل دون سبب يعلمه الذى ربما يكون (لفحة برد). لم يلح "عم ابراهيم" علي الرجل متظاهرا بتصديقه، فهو يعلم جيدا - ولا ينبئك مثل خبير- أن كثرة الالحاح قد تؤدى إلي انفجار الرجل بالبكاء وكشف المستور. وهو يعلم جيدا أن الرجل قد فعل كل ذلك وتعرض لهذة المهانة والمذلة كي يعفيه من مشاركتهم وليمة العظم  التي كان قد انبأه "عم ابراهيم" أنها ستكون في انتظاره عند العودة ، فأراد الضيف أن يستمتع بها أصحابها وحدهم حتي لا يؤدى ذلك مع طول الاقامة إلي الضيق به واعتباره ضيفا ثقيلا ...... 

الفصل الرابع ... جحرة تتحدث عن نفثها

        الفصل الرابع 

جحرة تتحدث عن نفثها

------------------

 أطلق " على " ساقيه للريح بعدما تمخضت بديهته  - التى ساعدتها لكمة المعلم المؤدية لاصطكاك اسنانه لتقضم لسانه فينفجر منه الدم كانفجار السائل عند فتح زجاجة من الخمر بعد ارتطامها عدة مرات , وكذلك ساعدتها حرارة ذراعة المحترق والحنق البالغ الذى كان سببه هذا الشيخ والأسى والنقمة والألم نتيجة كثرة الجوع وشقاء العمل وظلم الأجلاف فكان كل ذلك كان بمثابة المخاض لها واقتباس عبارة الولد الأخيرة الموجهة للشيخ والتى جاوزت بصدقها وبلاغتها كل بلاغة . اطلقها " على " واطلق معها ساقيه للريح وغابت عنه الحياة لتعود إليه وقد وجد نفسه وسط مايسمونه بيتهم والذى هو عبارة عن حجرة او " جحرة " ملقى على أحد جانبه رافعا ذراعه المحترق نحو السماء وكأنه عداء سقط من الاعياء على خط النهاية معلنا بذراعه فوزه بالسباق ، ولكن هناك فارق - كل الفارق - فبرغم غياب الحياة تماما عن الولد الا أنها - فيما بدا - لم تكن قد فارقت هذا الذراع ، بل كان (حيا يرفع ) لاتقاء أى شىء فى سبيله الى الارتطام به . وقد كان " قليل البخت " هذا حسن الطالع تلك المرة ، حيث إن وقوعه كان على الجانب الذى ليس به الذراع المحترق ، وهذا بديهى حيث كان الاصطدام بهذا الجانب والباب المغلق بدون مزلاج ، الذى لو كان قد قدر وجوده لكنا رأينا حال هذا الباب البائس الذى لايحتمل " نفرة حمار عفىً " . كان خلف هذا الباب مايمنعه من الانفتاح وهو صندوق " عم ابراهيم " الذى - لو لم يكن وجوده ولم يتعثر به الولد ليسقط على الارض لكان مثواه "حلة الغلية " التى وضعت فى مواجهة هذا الباب تئن فوق الموقد بما فيها " وماادراك مافيها " . وكان سقوط " سعيد الحظ " على مسافة منها بقدرخطوة طفل مازال يتعلم المشى . كان ذلك دليل على حسن الطالع للولد الذى لو لم يكن قد قدر له التعثر بالصندوق وقدر ماقدر - لاقدر الله - لكان ذلك بمثابة يوم السعد " للشيخ محمد " الذى كان سيكون أول من يعتلى المنبر فى الجمعة القادمة ، وكذلك - وهو أغلب الظن - فى كل جمعة مقبلة ، ولكان تردد على مسامعنا فى خطبته هذه ان كيف كان الانصاف والعدل والانتقام , وكيف كان أخذ العزيز المقتدر بهؤلاء المطففين فى الدنيا , وكيف سيكون عذابهم فى الاخرة باذن الله تعالى وهو العذاب الأشد ، وكيف كان الرصد فى المخبز من الشيخ - عين الله فى الأرض - وكيف كان الرصد فى كل مكان من الله عز وجل ,   لأن ربك بالمرصاد ، وكيف كان عذابه فى الدنيا وكيف سيكون فى الاخرة ، فى الدنيا - ويعلم الجميع - ( حلة غالية ) ونعم القدير سريع الحساب ، وفى الاخرة - وماأدراك ماهى - نار حامية ، وبئس المصير باذن الله تعالى ، العدل , المقسط ، المنتقم ، الجبار .... ( رب الحلة ) .. ورب النار ......! 
 الفضل لله ، والحمد لله الذى لم يقدر " لعلى " كل ذلك ولم يقدر لابيه أن يفضح فضيحة اقل دعائمها " الجلاجل " . الحمد لله الذى
لم يخذلنا ولم يقدر لنا ان تخترق اذاننا هذه الخطبة حتى وإن لم نصلِ الجمعة القادمة ولا اللاتى يلينها فهناك المكبرات التى تبدأ عملها فى منتصف الوقت بين كل اذان واذان لتنقل الشعائر من
مذياع يسلط عليها ولايغلق الا ليحل محله صوت الامام والمصلين اثناء الصلاة وقد يعقب الامام بعد الصلاة لالقاء كلمة لتاخذ نصف الوقت الاخر الذى يسبق عمل المذياع فلا ينقطع بذلك صوت
المكبرات ، شعارها فى ذلك ان لاعمل ولاراحة ولانوم لكل مسلم صحيح او مريض عليل او شيخ أو رضيع ، وأن الدعوة إلى سبيل ربك بالتى هى أصخب ، وأن القمع والكبت والاقلاق  والازعاج لكل من سولت له نفسه اتخاذ غير دين الله دينا . فما أفظع تلك المكبرات فى جلب الأسقام ، وتأريق المنام وهدم الأحلام . وما أمهرها وأتقنها فى اختراق الاذان وزلزلة الابدان ، وزعزعة الايمان باسم الاسلام ...... وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . ثم أما بعد .... أن الحمد لله كثيرا ... أن لم يقدر لنا أن نسمع خطبة الشيخ " محمد " الذى كان سيلقيها بكل اسهاب وكثير اطناب قد يتعدى شهورا . كان سيلقيها بنفس الاسلوب تماما مع الاختلاف فى
اعراب الكلمات وتشكيل الحروف حيث ان له فى ذلك نظرية جوهرية عامة شاملة أساسها غاية التبسيط والتقريب ، والبعد - كل البعد - عن التغريب والتعقيد . وجوهر نظريته هذه أنه بالنسبة للمبتدأ يكون الرفع بالضمة او بالفتحة أو بالشنق حتى ، المهم انه ابتدا وابتدا المشوار . اما المتاخر او اى حاجة تيجى بعد المبتدأ باللى ف بقك وانصب ... واكسرالتاء المربوطة تخاف السايبة بنت السايبة اللى مالقتش حد يكسرها . وهو فى كل ذلك لايحيد قيد أنملة عن نظريته هذه الذى يحكمها عنده نظام جامد صارم .... ابن صارمة كمان ! ومحصلة هذه النظرية ان ارفع وانصب واكسر واحرت واقلب وفى الاخر ضم ... ضم عنب ، ضم بظرميط ، زى ماتيجى تيجى . كله محصل بعضه .. المهم فى الاخر يطلع الكلام مذوق ومشكل ولااحسن رغيف سمين فى عيد الضحية ........... ياسلام ! ونعم التقريب ! ونعم التبسيط ! 
 ولم يكن الولد مدركا ماكان قد يحدث من ماذا وماذا إذا حدث لو ، ولو . ولو كان مدركا لكل ماقد يحدث لو ، لكان حقيقا له أن يتوصل ببديهته هذه أن لو هى بالفعل من عمل الشيطان .... سبحانك ربنا ، رحيم رحمن ! ......                                  لذلك فقد اخذ "على " يردد فى نفسه عقب سقوطه قائلا : " الحمد لله الذى وقعنى على الجنب ده والذى ماوقعنيش على ذراعى المحروق ....  ولم يكن الاناء يئن بما فيه من ملابس داخلية تلك المرة ولكن دلت رائحة " الجحرة " - لاصحابها - أن الاناء يحوى تلك المرة " العظم " بغرض الطهى وليس التعقيم وهو واحد من اغراض متعددة يؤدها هذا الوعاء .  فقد كان "أبو على " ذهب فى ذلك اليوم قبل عودته من عمله إلى جزار قريب من محل عمله واشترى عظم الاسبوع ، او الاسبوعين - على الاغلب  - لعمل حساء من هذا العظم وأكل ماعلق به من لحم تعذر على الجزار استخلاصه ، فهناك أفواه قادرة على القيام بذلك خير قيام . ولم يسلم " عم ابراهيم " أيضا هذه المرة من كلمات الجزار الذى قال شاهرا سكينه نحو السماء : " أنا باخلَص ضميرى عشان خاطر ربنا ... وزمتى ومسؤليتى عشان السمعة والحكومة .... قول للنتنة اللى انت واخد لهم الزفت ده ان العضم ماعادش ينفع للأكل .. وشوربته كمان غلط الدكاترة لقوه غلااااط .. ومضر ... وياما قولنا قبل كده وبرضة مابتسمعوش ... ولاحياة لمن تنادى  ... ويستخسروا وفى الاخر تلاقيهم بيجروا ويشحططوا وش الفجر يدوروا على دكتور .... اصله قاعد مخصوص مستنيهم مافيش على الحجر غيرهم .... ايه ده  .. ؟ مافيش رحمة ؟ ... مافيش احساس ؟ .... معقولة لسه فيه بنى ادمين بالطريقة دى ؟ .... ولا حتى نزاهة ؟  ... يااخى ده قلته احسن .    يالله ... خليهم يستخسروا وبكرة يحسوا ويفوقوا لما يتلطموا على مايلاقوا دكتور ... ويصرفوا شىء وشويات ... ويعطلوا كمان شغلهم ومدارسهم وجامعاتهم ويقعدوا يداووا ويطببوا , وياريت هايبقى فيه فايدة ...
ساعتها يكون لامؤاخذة فات المعاد على راى الست الله يرحمها بقى .  ساعتها هاتلاقى اسم النبى حارسه الكلب بتاعهم عدم وصدم ويبقوا يشوفوا بقى هايودوا وشهم اللى هايسود من جيرانهم فين .... ولا جيران ايه ؟ ماتلاقى الحال من بعضه  ! ماهى النتانة اليومين دول بقت كوريرا .... ياراجل دى حاجة تجيب الضغط ... بس انا بقى  -  ويشير بسبابته نحو السماء قائلا : " اللهم انى قد بلغت اللهم فاشهد .... اشهد لااله الا الله واشهد ان محمد رسولو وعبدو "  . 
لم ينبس الرجل بحرف واحد ولزم الصمت وكانت الكلمات تخترقه اختراقا كأنها سهام تتحول داخله الى ماهى بمثابة حصوات كلوية متشعبة فى كل اتجاه لتنهش من احشاءه وتنخر فى باطنه نخرا حارقا يصل الى صدره وقلبه , بل ويذهب أبعد من ذلك ليصل الى حلقه فيصيبه بغصة تمزقه والى لسانه ليلجمه وكأنه أصيب بالشلل . اكتفى الرجل بازدراد لعابه من بين فكين مطبقين , يدغدغه التحسر والأسى والتأثر من ضنك معيشته , وضعة حرفته , وخسة تجارتة , التى لاتؤكل ولاتغنى من تبكيت . تناول ماقدمه إليه الجزار وانفلت من بين يديه انفلاتا ولم يشعر بقدميه كيف تقوداه وهو يبتهل الى الله أن يتوب عليه من دى الضيقة ولايرميش فيها عدو ولا حبيب .......                     ناول " أم على " العظم ليكون مصيره " حلة الغلية " التى كانت تئن فوق الموقد عند سقوط الولد على الارض بالقرب منها . ليهب أبوه قائما مذعورا عاريا تماما إلا من عورته التى سترها بطرف خرقة كبيرة - يبدو أنها كانت غطاء لسيارة فيما مضى - تستعمل كغطاء فى الفراش فى هذه " الجحرة " , وكانت قبضة الرجل على طرفها كى لاتنكشف عورته , وبالقرب من قدميه كانت " ام على " ترتجف ارتجافا بين هذه الخرقة التى تشبثت بها وبين كيس كبير من القماش الذى يشبه كثيرا هذه الخرقة الا انه يحتوى على ألوان كثيرة وكل لون يبدو من قماش مختلف جمعته خياطة يدوية بخيط طائرات الورق ليس له لون ولكن يبدو أنه كان فى الاصل ابيض . ويحشو هذا الكيس كل ماهو كان ملبسا ولم يعد صالحا لشىء غير الحشو , ولايفصل هذه المرتبة عن الارض سوى طبقات من الكرتون من كل الاشكال والالوان والاحجام ... أخذت تردد وهى ترتجف بين الغطاء والمرتبة قائلة : " يالهوى .. يالهوى " ثم يتحول ترديدها الى ياساتر ياساتر وهى تنظر بعينيها - كلما جذب زوجها الغطاء  - نحو ملابسها الملقاة على الارض بالقرب منها .                                                            نظر الرجل فى كل ماحوله وكأنه يستكشف هوة سقط فيها ثم استقرت عينيه على الولد وذراعه المكتوى وفمه الذى يسيل منه الدم مختلطا باللعاب , وصندوقه - الذى تبعثرت محتوياته اثر تعثر الولد به -  ثم أخذ فى لطم رأسه معددا:" يابن الحرام , ضعنا وضاع رسمالنه هرست العلب وخربت دارنا ... كنت كمل ع الحلة كمان ويبقى موت وخراب ديار ... عليا الطلاق ماانت دايقها . وبعد مرور عينيه فى أرجاء " الجحرة " مرة ثانية ووقوعها من جديد على زوجته وهى ترتجف  , قال وكأنه انتبه من غفلة : ولا بايت فيها كمان ... يالله .    صرخت " ام على " صرخة مدوية
انتفض منها الرجل ليترك طرف الخرقة ويصرخ عاريا : " فضحتونا ياولاد المفاضيح " وركل زوجته فى وجهها وكاد اصبع
قدمه يفقأ عينها لولا أن أنفها حال بينه وبين ذلك . ثم تبادلت الاقدام الادوار لتصبح الراكلة على الارض وتكون الاخرى من نصيب سعيد الحظ , وكان له فى ذلك الحظ الاوفر بحيث جعلته يتخطى الباب الذى كان مازال مفتوحا ليجد الولد نفسه فى الشارع متجنبا بكل الحرص أن يمس ذراعه شىء .                                 صفع الباب من خلفه صفعة كادت تودى بهذا الباب , بل وبالجحرة كلها وكل من فيها . ولم يكن الصوت ليدل على حال الباب ولكن منحت الطبيعة كل ماهو فارغ خائر صوتا أعلى وأشد من صوت كل ذى حشو متين !                     

الأربعاء، 9 أكتوبر 2013

الفصل الثالث ... ويل للمطففين

                الفصل الثالث 

ويل للمطففين

-------


ولأن الحاجة أم الاختراع ، فقد اكتشف الولد مايعفيه من سؤال المعلم اطعامه او التماس مال أبيه .  اهتدى " على " الى اسكات صرخات الجوع بأن يقوم بقضم جزءا صغيرا من بعض الخبز أثناء حمله فى "الصاج " لنقله ، ويظل على ذلك طالما ظل جائعا حتى يشبع تماما وكان فى كل ذلك حريصا أشد الحرص أن لا يفتضح أمره بأن يلحظ أحد ذلك أو أن يبدو ذلك ظاهرا على الخبز وينم عن فعلته ويشى به عند من لايرحم . كان قد أصبح ماهرا فى تنظيم العمل فيما يختص بالذهاب والاياب والقضم والمضغ ... كل فى توافق ونظام محكم مابعده أحكام ! ... فالحاجة أم الاختراع ! .... ولكن ايضا تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن ! ويبدو أن هاتين الحكمتين متلازمتين دائما ، متتابعتين بنفس الترتيب فى كل مرة .  كان " الشيخ محمد " - امام مسجدالحى - يتردد على     المخبزلشراء مايلزمه من خبز وكان لاينسى فى كل مرة أن يقوم بتحية  " المعلم رابح " الذى كان يجلس دائما فى مكانه المخصص فيقوم " المعلم " بتوصية الصبى باختيار أجود الخبز وأكبره " لعمه الشيخ " الذى كثيرا ماكان ينهر الصبى سائلا اياه أن يراجع العدد ويكرر عليه فى كل مرة أن أدوا الأمانات الى أهلها .  لكن فى ذلك اليوم زاد " الشيخ محمد " عن التحية بعض شىء بأن نظر فى وجه المعلم رابح " - الذى كان ينفث الدخان من فمه وأنفه بمتعة يبدو منها أنه آت لتوه بعد تناول وجبة " دسمة لذيذة -  وقال له الشيخ مبتسما : " -- يعنى مابتجيش تصلى معانا ياحاج ؟ " ... قال ذلك بكثير من التودد المتصنع وقد ملأه الأمل أن قد يصيبه بعض من هذه الوجبات . أجاب المعلم وهو يشير بوجهه ناحية المخبز قائلا : " -- شغل ياشيخ .... شغل . "  عاجله الشيخ قائلا : " -- الصلاة عماد الدين ثم علا صوته وقال بتلقائية تلميذ يردد تحية العلم : " من أقامها فقد أقام الدين ومن هدمهااااا فقد هدم الدين و...... قاطعه المعلم بنظرة اخرسته قائلا : -- ماهو العمل عبادة برضه يامحمد ثم نظر إلى يد الشيخ وهو يتناول الخبز من الصبى وقال : ولا اييييه ؟    رد الشيخ وقد عاد إليه النطق والوعى قائلا :  هذا صحيح ... صحيح والله .. العمل عبادة وربنا يقويك "   التفت المعلم ناحية الصبى الذى ناول الشيخ الخبز وقال : " نقى حاجة كويسة ياواد لعمك الشيخ وزود له رغيف كمان .... ربنا كريم " قال الشيخ متهللا " -- ونعم بالله ! .. اللهم قوى ايمانك ياحاج ! "    قال المعلم وقد هدأت حدته اثر اعتدال الشيخ : " -- اديك شايف يامحمد بأكل كام صبى هنا أهاليهم مش قادرة تأكلهم .. مش دى عبادة برضه ؟ ... والا نتمنظر ونروح على الجامع ونيجى من الجامع واحنا بنشحت الرغيف وتبقى دى هى العبادة ؟  .... احنا بنعمل مننا لربنا على طول مش بنتمنظر... احنا عارفين القرآن كله بس الحاجات دى هنا (مشيرا الى منتصف صدره ) ... والا ايه ياشيخ ؟ "   اجاب الشيخ بسرعة :  -- نعم ! ... اللهم قوى ايمانكم ! "  وردد وقد وقعت عينيه على الصبى وهو يضع الرغيف الزائد قائلا : -- اللهم أطعم من أطعمنا ! اللهم أطعم من أطعمنا ! ......... . أرأيت من كان الهه رغيف من الخبز ؟ ! ... رغيف واحد لاشريك له ! وإن كان له  شريك فى الخبز فالزيادة بركة .... والشرك خير !    .... صدق المنافق الدنىء !!          كان يتابع " على " كل ذلك بدهشة انسته متابعة سير عمل قطعة الخبز والنظام الذى يتبعه فى رحلته ذهابا وايابا ،  دهش الولد من هذا الحوار بين الشيخ محمد " والمعلم " حول الموضوع ذاته الذى كان قد دار حوله الحوار امس فى نفس المكان بين هذا الشيخ وأحد عمال المخبز الذى كان يقوم بتوزيع الخبز خارج المخبز مقابل ربح زهيد ، ولكن كان الاختلاف كل الاختلاف فى الحديث بأن ظل " الشيخ محمد " يترافع ويصول ويجول مؤكدا بأن الصلاة هى عماد الدين ولابد منها مهما حدث ، حتى وإن ماتت عيالك من الجوع فإنه يجب أن تترك كل عمل وتذهب لاقامة الصلاة ... الصلاة التى هى عماد الدين والتى إن اقيمت اقيم الدين وإن هدمت فقد هدم الدين وكيف أن تارك الصلاة كافر ، كافر مهما فعل من حسنات فمصيره النار خالدا فيها ، وكيف أن الكفر لاتنفع معه لاتجدى أى طاعة بينما لاتضر مع الايمان معصية . كانت الصدمة قوية للولد الذى كان قد ورث عن أبيه وعن أمه أن " الشيخ محمد " هو الدين ، وهو الفاصل فى كل شىء وإليه الرجوع وقت الحيرة فى أمر من أمور الدين ، أو هو كذلك الحكم العدل عندما تستنجد به "أم على " عند تأزم الأمور بينها وبين زوجها ، وكذلك كان يفعل أبوه عندما كان غضب على زوجته ويذهب إلى " الشيخ محمد " ليقوم بنصحها وهدايتها وكيف كان كذلك يستفتيه فى أمور الدين الخاصة بوقوع يمين الطلاق الذى كان قد أقسمه ، أو ماإذا كانت تسقط عنه زكاة الفطر لفقره أو إلى ماغير ذلك من الأمور الدينية . تناول الشيخ الخبز من الصبى وهو يكرر دعائه موجها بصره نحو المعلم ثم توجه بالحديث نحو " على " الذى كان يمر من أمامه فى تلك اللحظة عائدا "بالصاج " الخاوى يفيقه صوت الشيخ من 
تأملاته وهو يقول : " ويل للمطففين " . انتبه الولد ولكنه لم يفهم فلم يتوقف واكتفى بالنظر إلى الشيخ ومضى من غير تعقيب . وعند مروره مرة اخرى وكان قد توقف عن قضم الخبز بعدما شعر بعدم ارتياح لسير الأمور رغم عدم ادراكه السبب فقد توقف عن القضم والمضغ تحسبا لأى مفاجأة وزيادة فى الاحتياط . نظر الشيخ فى عينيه وهو يشير إليه أن يتوقف قائلا " ويل للمطففين " . ادرك الولد أنه لابد من الرد ولابد أن هناك شيئا ما يقصده الشيخ ولكنه لم يدرك ماهو فقال فى حيرة ظاهرة ويده تتحسس حول فمه بتلقائية بريئة : " -- متفتفين ازاى ؟ " . قال الشيخ بسرعة وقد ارتفع صوته " -- ويل للمطففين " . ارتبك الولد ونظر فى أركان المخبز عله يجد مايريده الشيخ وقال : "  -- يعنى عاوز ايه ياشيخ محمد ؟ " . قال الشيخ : " --  يعنى عاوز اقول إن العيش اللى انت عمال تاكل فيه ده رايح جاى حرام .... أنت من المطففين ويل لك بمعنى أن العذاب لك ولأمثالك من الله عز وجل ، البصير، شديد العقاب وأخذ الشيخ فى سرد السورة حتى أتى على آخرها . أخرست كلمات الشيخ " عليا " ونظر تحت قدميه عساه يهتدى إلى ما ينقذه من هذه الكارثة التى حاقت به على يد الشيخ . كان الشيخ يردد كلمات الآية فى صورة خطبة منبرية وهو يوجه بصره نحو المعلم عقب كل وقفة وكأنه يترقب انفجار قنبلة كان قد اشعل فتيلها لاتخاذ اجراء مناسبا تجاه حالة التلبس هذه التى كشفها من هو حصيفا نابها لكل ما من شأنه الضرر بالرجل الكريم ، وكان ايضا فى ترديد الكلمات بصوت جهورى تهديد قصده الشيخ وانزعج منه المعلم أيما انزعاج . هب المعلم ببديهة لينقذ الموقف بكل ماءوتى من قوة بأن امسك الولد من أذنه بيده اليسرى وهال بيده الأخرى - وكأنها مطرقة حداد - فوق رأس الولد الذى شعر بالدم الخارج من لسانه الذى قضمته أسنانه عند اصطكاكها اثر اللكمة ثم عاد الوعى - وقد غاب لحظات - للولد وكانت عودة الوعى تسبق عودة الرؤية التى غابت وقت اطول ليكتشف " على " أن زراعه الأيسر قد كواه  " الصاج " الساخن عندما دفعه المعلم نحوه وهو يلكمه قائلا :   يابن الحرام هاتبوظ
سمعتنا فى الحتة ... داحنا طول عمرنا بتوع ربنا..... . صاح الشيخ محمد  قائلا :آي والله ... وكرما كمان يامعلم  . انفلت الولد خارجا يملأه الغل والغيظ المكتوم ثم جعل بصره فى اتجاه الشيخ وقال بصوت عال والدموع تملا عينيه :  ياشيخ محمد ؟  . تطلع الشيخ إلى الولد مستفسرا . صاح الولد وهو يستعد للهرب واضعا يده على زراعه المكتوى والدم 
يسيل من فمه قائلا : ويلون للخباصين ...... ياخباص يابن الخباصة .

الفصل الرابع

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

الفصل الثانى "رابح "

الفصل الثانى 

رابح

-----


بعد عودة " عم ابراهيم " وقد صرف بضاعته توجه الى مخبز المعلم " رابح " الافرنجى مصطحبا ابنه "على " وعندما وصل وقف بالقرب من المعلم " رابح " الذى كان يجلس فى الجانب الايسر لواجهة المخبز وقال فى حماس : - سلاموعليكو يامعلم رابح .....  
 نظر المعلم فى عينى الولد وهيئة ابيه وقال بعد ان ادرك مغزى الزيارة : - اهلا يا..........         وقبل ان يتم عبارته نظر الى الجانب الاخر نحو صبى ببديهة معلم اراد ان يُرى كيف تعامل الصبية وكيف يكون اذعانهم الذى فيه الدليل على ان العمل فى المخبز يعتبر انعاما من المعلم " رابح " يهبه لمن يشاء وقال : " اعدل ياواد الصاج بالطول .... أبوك الحمار بلانى بيك وريح دماغه ... دى حاجة تقرف  ، ثم تنخم فى مبالغة وبصق بالقرب من " على " ثم حول بصره نحو " الشيشة " وانشغل فى سحب أنفاس متواصلة منها ونفث سحابات من الدخان حجبت جزءا كبيرا من وجهه عن الرؤية ....  
صمت " عم ابراهيم " ولم يتحرك وبدأ التفكير فى التنازل عن كثير من الشروط التى كان مقررا لها ان تملى على المعلم .قطع الصمت ان قال المعلم وهو مازال ينظر نحو الشيشة وكانه تذكر شيئا ما : بلاوى ..... 
 تغاضى " عم ابراهيم " عن كل ماحدث وقال بصوت أقل حماسة وكلماته بطيئة بعض الشىء : - ازيك يامعلمنا ؟
 نظر المعلم اليه وكانه تذكره وقال : اهلا يابتاع الكلاب ..... انت موش بتأكل الكلاب برضه ؟ ها ها ها ...... 
 قال " ابراهيم " : - هما اللى بيأكلوها يامعلم .ههههههه        : - هما مين دول اللى بيأكلوها ؟   - : ولاد الناس يامعلم ...
 قال المعلم وهو يشير بيد " الشيشة " نحو الولد : - طيب مايأكلوا الناس الأول ياخويا ...
   - : الكلاب لامؤاخذة يامعلم بيشتروها ... انما الناس مابتتبعش علشان يأكلوها .... ايه جاب الناس اللى زينا لكلابهم الافرنجى ؟ ........
قال المعلم متظاهرا بالاشفاق : -- افرنجى ؟ ... صحيح ... زمن .....!
  قال " ابراهيم " بسرعة : -- على جايلك يامعلم  
قال المعلم  :-- ايه ياخويا ؟....  وهاأكله انا بقى ؟
قال " ابراهيم "  - : ربنا يزيدك ويخليلك عيالك ويرزقك برزقهم                     ومايحوجك لعدو ولا لحبيب ....    - :  يزيدنى هم ؟              - : ربنا يخليك ليهم يامعلم ويباركلك فى صحتك .....   نظر المعلم الى الولد وقال بعد أن تأكد من صلاحيته وتقييم قدراته :  ادخل ياواد الميغة اللى جابك ليها ابوك .... ماهى المشرحة ناقصة قتلة ... 
 لم يفهم الولد ولم يتحرك من مكانه فوكزه ابوه وكزة مغتاظة كادت توقع به وقال بصوت متهلل :  خش ياد اشتغل يالله ... ربنا يخليلنا المعلم ......... 
دخل الولد وهو يتحسس المكان وبعد ان غاب داخل المخبز نظر " عم ابراهيم " فى وجه المعلم مبتسما وقال : ههههه على أول مرة يشتغل يامعلم وهو اخر العنقود وهو ........ قاطعه المعلم قائلا  : روّح ياحنين ..... عنقود ؟ ..... دا وانا قده كنت باصرف على عيلة ياابو عنقود عُجَر انت .....  ثم صرف وجهه نحو الشيشة " وانشغل فيها .
 صمت " ابراهيم " لحظات دون ان تفارقه ابتسامة ليس لها معنى واضح محدقا النظر
 فى المعلم كانه يتفحصه ثم تماسك وقال : - طيب يامعلم هيه بقى ؟
 رد المعلم بسرعة : - هيه ايه ... احنا لسه شوفنا حاجة ؟ قال : - يعنى ...
قاطعه المعلم : - يعنى اخر الشهر ... اما نشوف .. ياتاخده وتروّح من دلوقتى ..... موش كفاية هانعلمهولك صنعة ؟ .... انت مابتقدرش ؟ الدنيا جرى فيها ايه ياعالم ؟ .......
-- : ربنا يبارك فيك يامعلم .... اهو ابنك برضه ... يالله سلامو عليكو .......
 لم يرد المعلم على الرجل وانشغل " بالشيشة " اتقانا للدور الذى أدّاه ببراعة . 
استدار " عم ابراهيم " وتوجه نحو بيته مهنئا نفسه بالنجاح الذى حققه رغم كل ماحدث .
.....................

 يذهب " على " كل صباح الى المخبز دون تناول افطار لاستيقاظه مبكرا وذهابه الى العمل نصف نائم بعد اخذ قسطا غير وفير من النوم . كان الجوع يستبد به بعد فترة من العمل ولم يسال الولد المعلم اطعاما بعد ان حدث ذلك ذات مرة وكان رد المعلم انه لااكل اثناء العمل مهما كان فى ذلك من مشقة ، فهو يريد من يعمل معه ان يكون رجلا يتحمل كل صعب ولايعطل سير العمل وإلا فلامكان له إلا " جنب امه فى البيت " ، كذلك لم يكرر طلب المال من ابيه كى يشترى ماياكله عند الجوع حيث كان رد ابيه انه لايصدقه فى انه يجوع فى العمل ولايصدقه فى ان المعلم يمنعه من الاكل لانه يعمل فى مخبز المعلم " رابح " الذى لاقيمة للاكل عنده واتهمه بان ذلك احتيال للتملص من العمل الذى لاسبيل الي غيره باى حال من الاحوال وقد اكد له بحسم انه لن يستطيع اعطاءه اى شىء مهما حدث الا بعد شهر ، بعد ان يحاسب المعلم ,  لانه - حتى الان - " لم ياكل شيئا كى يشرب عليه" ...  
 وللاسف كان " قليل البخت " شديد الحياء - وهذا طبيعى - فقد اورثت الطبيعة المحرومين حياء مابعده حياء .. حياء يمنعهم من التماس ماهم فى امس الحاجة اليه ...    " وتحسبهم اغنياء من التعفف " ، وحبت ذوى اليد الطولى اعتدادا مابعده اعتداد ، ووقاحة مابعدها وقاحة ... " وتحسبهم فقراء من التوقح " وكل شىء وكل انسان يسخر لهم تسخيرا ، بخلاف الكلاب طبعا حيث انها ليست من الاشياء ولاهى كذلك من الانسان ، انما هى منزهة عن هذا وذاك .... ولامحل لها من التصنيف ............!


صوت الكلاب من العاصمة

       الفصل الأول

ابن الكلب
------

يقف " عم ابراهيم " فى شارع صغير فى حى " المهندسين " .
الشارع نظيف وهادىء تمر منه سيارات الحى لاتخاذ طريقا رئيسيا بعد ذلك ....
يضع " عم ابراهيم " صندوقا خشبيا فوق الرصيف مصفوفا من فوقه معلبات بأشكال مختلفة أغلبها يحوى صورا نادرا ماتكون لغير القطط والكلاب ، وأختاما كثيرة تدل على أن العلب مستوردة ، خالصة الجمارك ، معلومة المنشأ والوسيط فى استيرادها وصلاحيتها ، وغير ذلك من ضمانات لاتشوبها شائبة .
يمر عملاء " عم ابراهيم " بسياراتهم ويتوقفون بالقرب منه ليبادر بالتوجه اليهم واستبدال هذه العلب بعلب أخرى ليست لديهم حاجة اِليها بسبب عدم اِقبال كلبهم أو قطتهم عليها ، أو أن يكون الطبيب - طبيب كلابى طبعا - كان قد نصح بعدم تقديمها للحيوان وتقديم نوع آخر ، كذلك - وهو الغالب - كانت تستبدل هذه العلب ببواقى علب لم يستكملها الحيوان , نظرا لأنه يتناول فى الوجبة الواحدة أكثر من صنف فهو بذلك لايأتى على كل علبة بأكملها . وكان كثيرا   مايستبدل " عم ابراهيم " هذه العلب مع فارق نقدى يؤده العميل اليه أو بدون فارق ، وقليل جدا ماألزمه العميل بتأدية فارقا لصالحة مؤكدا له فى كل مرة على السعر الذى اشترى به ، وكيف أنه بذلك سوف يضطر الى  التعامل مع غيره ، فكان " عم ابراهيم " يؤدى هذا الفارق عند اضطراره لذلك اضطرارا مع شعور بالحيرة فى أمره وتوقعا لخسارة قد يندم عليها. وهو يضطر لذلك خوفا من أن يؤدى اصرار العميل الى عناد قد يفقده الصفقة كلها أو - وهو أشد مايخشاه - أن يفقد العميل نفسه خاصة بعد ظهور كثير من المنافسين له .... ونظرا لريادة " عم ابراهيم " لهذه المهنة ومعرفة كثير من العملاء به فقد كان هؤلاء المنافسون يبالغون فى جذب العميل وتدليله ولو كان فى ذلك ضررا بهؤلاء  المنافسين فان مؤداه الحاق ضررا أكبر "بعم ابراهيم " قد يؤدى الى افلاسه وهجرة للمهنة وبعد ذلك تكون المنافسة مع خصم واحد وهو العميل .  وكان " عم ابراهيم " يقوم بعرض العلب المغلقة التى لايعيبها عيب ولم يلحق بأختامها أى ضرر مرة أخرى للبيع أو الاستبدال ، أما بالنسبة للفضلات والعلب الغير مكتملة فكانت تجمع آخر اليوم لتوريدها الى المتعهد الذى يقوم بدوره ببيعها مباشرة لعملائه الذين لايستطيعون شراء علبا كاملة من هذه الأصناف الجيدة . وكثيرا ماكان يتمنى " عم ابراهيم " أن تتوسع تجرته ويصبح فى النهاية مثل هذا المتعهد الذى يذهب إليه معظم الربح والذى طالما رآه يساوم عملائه بكثير من التعالى واظهار عدم الرغبة فى البيع وهم يضطرون لتقبل كل ذلك بكثير من المرونة التى يشوبها بعض التذلل ، فذلك أفضل كثيرا من ان تكون كلابهم أقل شانا فى أكلها عن بقية الكلاب مثلها . كان " عم ابراهيم " يقيم بحى " ميت عقبة " الذى لايفصل بينه وبين حى " المهندسين " شىء غير المستوى المادى والاجتماعى ، وكأن الحيان بمثابة قطبى مغناطيس وقد تجاذبا والتصقا نتيجة تضادهما ، فكان يعود الى بيته سيرا فى نهاية يوم عمله لتناول غداءه الذى كثيرا ماكان يؤجله حتى ينتهى من عمله ومقابلة آخر عميل يتوقع استقباله . وبعد تناول غدائه ، وشرب كوبا من الشاى مع تدخين "حجرا " من " المعسل" ، ولبس جلبابه الذى كان قد خلعه قبل الجلوس على " الحصيرة " يقوم بحمل بضاعته والتوجه بها الى المتعهد . كان يفعل كل ذلك بسرعة تلقائية اكسبتها له العادة وحثه الحذر عليها فكلما كان الوقت مبكرا كلما تخلص منها بسهولة وبسعر أفضل والا فسوف تتردد علي مسامعه كلمات كثيرا ماجعلته يبكى من غير بكاء ظاهر ولكن بكاءه كان بداخله لايشعر به أحد سواه فقد كان حريصا كل الحرص ألا يشعر به المتعهد الخبير بممارسة الضغوط على من يحتاج . ورغم تردد تلك الكلمات على مسامعه أكثر من مرة إلا أنها لم تفقد وقعها وتأثيرها فى الرجل . فكان يتجنب كل ذلك " بالمشى فى طريقه العدل حتى يحتار المتعهد فيه " ،" وكفى الله المعجلين شر الابخاس " . كانت أيامه لاتتغير بأحداثها ووتيرتها بخلاف بعض الأحداث العابرة التى - حتى الآن - لم تغير من وتيرة حياته مثل الذى حدث هذا اليوم مثلا ، فقد كان يتناول غداءه كعادته بينما ينتظره أولاده وأمهم حتى ينتهى من مهمته الروتينية ثم يقومون بعد ذلك بتناول غداءهم أثناء شربه للشاى أو بعد رحيله ، المهم أن لايعطله شىء عن أداء مهمته بسرعة حيث إن تاديتها بسرعة فيه كل الفائدة واحلال كل الضرر عند الاخلال بها والذى طالما حذرهم منه الرجل . حدث فى هذه الاثناء أن غلب الجوع " عليا " - الابن الأصغر - وراودته رغبة فى تذوق ماتحويه العلب وزادت تلك الرغبة فى الحاحها على الولد حيث كان الغداء الذى ينتظرونه عبارة عن فول " مدمس " وجبن " قريش " - أحضره قريب لهم من بلدتهم . الفول الذى لايعتبره " على " من الأصناف حيث يقدم فى كل الوجبات - مثل الخبز تماما - والجبن " القريش " الذى لايحبه ولايستطيع بأى حال من الأحوال أن يأكله مع الخبز ، وقد حدث ذات مرة أن نهرته أمه بشدة عندما أكل قطعة من الجبن بدون خبز . كان الضيف الذى يزورهم قد أحضر هذا الجبن على سبيل الزيارة ، وهى لم تكن فى الحقيقة زيارة من هذا الذى هو بلدياتهم وإنما كانت بمثابة إقامة مرهونة حتى يستطيع " عم ابراهيم " ايجاد فرصة عمل له وإن كان أفضلها العمل كبواب أو خفير عند " ولاد الناس " من معارف "عم ابراهيم " - وهم كثر- ففى هذا النوع من العمل تكون الاقامة محل العمل للضيف الذى فرض نفسه فرضا عليهم بعدما ضاقت به بلدته وأغشت عينيه الحكايات التى سمعها عن " ابراهيم " الذى كان قد رآه فى البلدة مرتين او ثلاث مرات على الاكثر طوال حياته ولكن التملص فى هذه المواقف هو المستحيل ولم يملك الرجل سوى الامتثال لقضاء الله وقدره وهو يسمع الضيف بعد السلامات والتحيات والأحضان يقول : " هو دا ياخويا كل اللى شفته من قلالات الأصل ، قلت انزل لاخويا هو أولى بيا وانا عارف ياخويا الناس الأصيلة اللى زيك اللى ف جيبها موش ليها وتطلع اللقمة من بقها وتديها لغيرها ، والجبنة دى مرات اخوك عاملاها لكم مخصوص بأيديها .... معلش أهى حاجة موش قد المقام ، لكن الجايات أكتر من الرايحات .... " . وكان اجتماع الفول " المدمس " مع الجبن " القريش " يمثل سوء الحظ وخيبة الأمل للولد و " قليل البخت يلاقى العضم فى الكرشة ............ ! " . قام " على " وتوجه ناحية الحمام الذى يفصل بينه وبين الحجرة ستار من الخيش المتسخ الذى يبدو أنه لايغسل أبدا ولايتغير إلا إذا تمزق وكشف من وراءه ، وفى الداخل حفرة صغيرة على جانبيها قالبين من الطوب الأحمر وقد غاصا فى الأرض وكادا يتساويان بها وبالقرب منهما يوجد دلو بلاستيكى من فوارغ أدوات الدهان به شرخ علوى يجعله يحتفظ بنصف حجمه من الماء ، وبداخله علبة من الصفيح غير مستوية الشكل وقد أكل الصدأ معظم لونها ولكن يبدو أنها كانت من معلبات أكل الكلاب . بعد خروج الولد لم يعد إلى مكانه السابق فقد كان صندوق العلب موضوعا فى ركن تعمد المرور به أثناء العودة وجلس بالقرب منه مستندا ظهره على الجدار وأخذ يتزحزح بحرص شديد حتى لاصق الصندوق وظل ملتصقا به حتى يكون حجمه بالاضافة إلى حجم الصندوق شاغلا أقل حيز ممكن ، وبعد مراقبة جميع الحضور والاطمئنان لسير الأمور بطريقة طبيعية بدأ يمد ذراعه القريب من الصندوق وشرع فى التقاط بعضا من علبة مفتوحة باصبعين - وكأنه طبيب يلتقط جنينا من رحم أمه - أو بثلاثة اصبع إذا كانت " الحالة متعثرة " ثم يقوم باعادة يده لتستقر قطعة فى فمه . كان يؤدى ذلك المشهد - فى رحلة ذهاب يده خالية نحو الصندوق وعودتها بما تشتهيه نفسه إلى فمه غانمة ظافرة  ببطء شديد ، مؤثرا التأنى - رغم لهفته الشديدة - الذى فيه السلامة على العجلة التى قد تؤدى إلى ندامة مابعدها ندامة إذا افتضح أمره . كانت خطة محكمة أيما احكام أوتي صبى فى الثانية عشر ، لم ينل أى حظ من التعليم ولكن بدأت الحياة تسطر أولى كلماتها فى سجل براءته وأخذ ألم الجوع والحاجة فى غرس بذرة الحنكة فى نفسه لتبدا فى جنى أولى ثمرات تلك الحنكة التى - وإن كانت ماتزال غضة -  تنبىء عن كوامن القدرات التى يثيرها الألم فيجعلها بمثابة نواة ذرة تنطلق من مكمنها عند انفجار تلك الذرة ،" فالحاجة أم الاختراع ". لكن " تاتى الرياح بما لاتشتهى السفن " ، فقد كان "على" قد وضع ثالث قطعة فى فمه وبدأ فى مضغها بينما يتابع ذراعه رحلة العودة أثناء المضغ بحساب دقيق للزمن الذى يستغرقه الذراع فى رحلة الذهاب والعودة بحيث تكون القطعة التالية  مستقرة فى الفم أثناء بلع القطعة السابقة وكأن ذراعه وفمه جهازين منفصلين يعمل كل منهما فى نظام دقيق وتوافق بحيث يكون التقاءهما فى النهاية فى لحظة معلومة وكأن لحظة وصول القطعة إلى الفم هى محور هذا النظام ، وكل شىء فى الولد قد تلقى الأمر بعدم الحركة ، بخلاف عينيه التى كانتا تتحركان بانتظام دورى داخل رأسه الثابت وكأنه " برج المراقبة " . حدث فى هذه الأثناء أن وقعت قطعة من الفحم المشتعل التى كانت تضعها أخته على "حجر المعسل " فقام أبوها بنفض "الحصيرة " لابعاد قطعة الجمر عنها لتطير وتستقر على الأرض بالقرب من " قليل البخت المخترع " والذى لم يتوقع حدوث مثل هذه الثغرة ولم تسعفه بديهته لمواجهة هذه الكارثة . اسرعت البنت لالتقاط قطعة الفحم فلمحته اثناء نهوضها وقد اغمض عينيه ليهرب إلى داخله . تركت البنت الجمرة لتسقط على الارض ثانية ولطمت صدرها وصرخت قائلة : " يخرب بيتك ياعلى ... بتاكل من العلب بتاعة ابوك !؟ " . هب الرجل نحو الولد وصاح وهو ممسكا به دافعا اياه نحو الباب المغلق - الذى ارتطم به الولد اثر دفعه -  وقال : " خربت بيتنا ياوش الخراب ... اللى طفحته دا يتباع وياكلنا كلنا .... والله ماانت متغدى ولا متعشى .... غور برة ياابن الكلب . خرج الولد وبدأ يحرك فمه وأخذ فى مضغ القطعة التى كان قد قرر أن يبتلعها إذا أصر ابوه وطلب منه اخراجها من فمه ثم سمع اباه فى الداخل وهو يصيح فى زوجته قائلا : " يابت ده ابن كلب هايخرب بيتنا " . بلع الولد القطعة التى بالغ فى مضغها وقد كان يتمنى أن تبقى فى فمه بقية اليوم وقال بصوت ضعيف لايسمعه أحد : " ابن كلب ؟ " ثم وجه بصره إلى لاشىء وقد غلب عليه البكاء وقال بصوت لايسمعه غيره :
 " لو كنت ابن كلب صحيح كانوا سابونى اكلها ! "

--------------
بقلم الشاعر : محمد اليمانى

الفصل الثانى

الفصل الثالث

الفصل الرابع

مدونات لنفس المؤلف :

 أم الدنيا MON EGYPTE