الخميس، 10 أكتوبر 2013

الفصل الرابع ... جحرة تتحدث عن نفثها

        الفصل الرابع 

جحرة تتحدث عن نفثها

------------------

 أطلق " على " ساقيه للريح بعدما تمخضت بديهته  - التى ساعدتها لكمة المعلم المؤدية لاصطكاك اسنانه لتقضم لسانه فينفجر منه الدم كانفجار السائل عند فتح زجاجة من الخمر بعد ارتطامها عدة مرات , وكذلك ساعدتها حرارة ذراعة المحترق والحنق البالغ الذى كان سببه هذا الشيخ والأسى والنقمة والألم نتيجة كثرة الجوع وشقاء العمل وظلم الأجلاف فكان كل ذلك كان بمثابة المخاض لها واقتباس عبارة الولد الأخيرة الموجهة للشيخ والتى جاوزت بصدقها وبلاغتها كل بلاغة . اطلقها " على " واطلق معها ساقيه للريح وغابت عنه الحياة لتعود إليه وقد وجد نفسه وسط مايسمونه بيتهم والذى هو عبارة عن حجرة او " جحرة " ملقى على أحد جانبه رافعا ذراعه المحترق نحو السماء وكأنه عداء سقط من الاعياء على خط النهاية معلنا بذراعه فوزه بالسباق ، ولكن هناك فارق - كل الفارق - فبرغم غياب الحياة تماما عن الولد الا أنها - فيما بدا - لم تكن قد فارقت هذا الذراع ، بل كان (حيا يرفع ) لاتقاء أى شىء فى سبيله الى الارتطام به . وقد كان " قليل البخت " هذا حسن الطالع تلك المرة ، حيث إن وقوعه كان على الجانب الذى ليس به الذراع المحترق ، وهذا بديهى حيث كان الاصطدام بهذا الجانب والباب المغلق بدون مزلاج ، الذى لو كان قد قدر وجوده لكنا رأينا حال هذا الباب البائس الذى لايحتمل " نفرة حمار عفىً " . كان خلف هذا الباب مايمنعه من الانفتاح وهو صندوق " عم ابراهيم " الذى - لو لم يكن وجوده ولم يتعثر به الولد ليسقط على الارض لكان مثواه "حلة الغلية " التى وضعت فى مواجهة هذا الباب تئن فوق الموقد بما فيها " وماادراك مافيها " . وكان سقوط " سعيد الحظ " على مسافة منها بقدرخطوة طفل مازال يتعلم المشى . كان ذلك دليل على حسن الطالع للولد الذى لو لم يكن قد قدر له التعثر بالصندوق وقدر ماقدر - لاقدر الله - لكان ذلك بمثابة يوم السعد " للشيخ محمد " الذى كان سيكون أول من يعتلى المنبر فى الجمعة القادمة ، وكذلك - وهو أغلب الظن - فى كل جمعة مقبلة ، ولكان تردد على مسامعنا فى خطبته هذه ان كيف كان الانصاف والعدل والانتقام , وكيف كان أخذ العزيز المقتدر بهؤلاء المطففين فى الدنيا , وكيف سيكون عذابهم فى الاخرة باذن الله تعالى وهو العذاب الأشد ، وكيف كان الرصد فى المخبز من الشيخ - عين الله فى الأرض - وكيف كان الرصد فى كل مكان من الله عز وجل ,   لأن ربك بالمرصاد ، وكيف كان عذابه فى الدنيا وكيف سيكون فى الاخرة ، فى الدنيا - ويعلم الجميع - ( حلة غالية ) ونعم القدير سريع الحساب ، وفى الاخرة - وماأدراك ماهى - نار حامية ، وبئس المصير باذن الله تعالى ، العدل , المقسط ، المنتقم ، الجبار .... ( رب الحلة ) .. ورب النار ......! 
 الفضل لله ، والحمد لله الذى لم يقدر " لعلى " كل ذلك ولم يقدر لابيه أن يفضح فضيحة اقل دعائمها " الجلاجل " . الحمد لله الذى
لم يخذلنا ولم يقدر لنا ان تخترق اذاننا هذه الخطبة حتى وإن لم نصلِ الجمعة القادمة ولا اللاتى يلينها فهناك المكبرات التى تبدأ عملها فى منتصف الوقت بين كل اذان واذان لتنقل الشعائر من
مذياع يسلط عليها ولايغلق الا ليحل محله صوت الامام والمصلين اثناء الصلاة وقد يعقب الامام بعد الصلاة لالقاء كلمة لتاخذ نصف الوقت الاخر الذى يسبق عمل المذياع فلا ينقطع بذلك صوت
المكبرات ، شعارها فى ذلك ان لاعمل ولاراحة ولانوم لكل مسلم صحيح او مريض عليل او شيخ أو رضيع ، وأن الدعوة إلى سبيل ربك بالتى هى أصخب ، وأن القمع والكبت والاقلاق  والازعاج لكل من سولت له نفسه اتخاذ غير دين الله دينا . فما أفظع تلك المكبرات فى جلب الأسقام ، وتأريق المنام وهدم الأحلام . وما أمهرها وأتقنها فى اختراق الاذان وزلزلة الابدان ، وزعزعة الايمان باسم الاسلام ...... وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . ثم أما بعد .... أن الحمد لله كثيرا ... أن لم يقدر لنا أن نسمع خطبة الشيخ " محمد " الذى كان سيلقيها بكل اسهاب وكثير اطناب قد يتعدى شهورا . كان سيلقيها بنفس الاسلوب تماما مع الاختلاف فى
اعراب الكلمات وتشكيل الحروف حيث ان له فى ذلك نظرية جوهرية عامة شاملة أساسها غاية التبسيط والتقريب ، والبعد - كل البعد - عن التغريب والتعقيد . وجوهر نظريته هذه أنه بالنسبة للمبتدأ يكون الرفع بالضمة او بالفتحة أو بالشنق حتى ، المهم انه ابتدا وابتدا المشوار . اما المتاخر او اى حاجة تيجى بعد المبتدأ باللى ف بقك وانصب ... واكسرالتاء المربوطة تخاف السايبة بنت السايبة اللى مالقتش حد يكسرها . وهو فى كل ذلك لايحيد قيد أنملة عن نظريته هذه الذى يحكمها عنده نظام جامد صارم .... ابن صارمة كمان ! ومحصلة هذه النظرية ان ارفع وانصب واكسر واحرت واقلب وفى الاخر ضم ... ضم عنب ، ضم بظرميط ، زى ماتيجى تيجى . كله محصل بعضه .. المهم فى الاخر يطلع الكلام مذوق ومشكل ولااحسن رغيف سمين فى عيد الضحية ........... ياسلام ! ونعم التقريب ! ونعم التبسيط ! 
 ولم يكن الولد مدركا ماكان قد يحدث من ماذا وماذا إذا حدث لو ، ولو . ولو كان مدركا لكل ماقد يحدث لو ، لكان حقيقا له أن يتوصل ببديهته هذه أن لو هى بالفعل من عمل الشيطان .... سبحانك ربنا ، رحيم رحمن ! ......                                  لذلك فقد اخذ "على " يردد فى نفسه عقب سقوطه قائلا : " الحمد لله الذى وقعنى على الجنب ده والذى ماوقعنيش على ذراعى المحروق ....  ولم يكن الاناء يئن بما فيه من ملابس داخلية تلك المرة ولكن دلت رائحة " الجحرة " - لاصحابها - أن الاناء يحوى تلك المرة " العظم " بغرض الطهى وليس التعقيم وهو واحد من اغراض متعددة يؤدها هذا الوعاء .  فقد كان "أبو على " ذهب فى ذلك اليوم قبل عودته من عمله إلى جزار قريب من محل عمله واشترى عظم الاسبوع ، او الاسبوعين - على الاغلب  - لعمل حساء من هذا العظم وأكل ماعلق به من لحم تعذر على الجزار استخلاصه ، فهناك أفواه قادرة على القيام بذلك خير قيام . ولم يسلم " عم ابراهيم " أيضا هذه المرة من كلمات الجزار الذى قال شاهرا سكينه نحو السماء : " أنا باخلَص ضميرى عشان خاطر ربنا ... وزمتى ومسؤليتى عشان السمعة والحكومة .... قول للنتنة اللى انت واخد لهم الزفت ده ان العضم ماعادش ينفع للأكل .. وشوربته كمان غلط الدكاترة لقوه غلااااط .. ومضر ... وياما قولنا قبل كده وبرضة مابتسمعوش ... ولاحياة لمن تنادى  ... ويستخسروا وفى الاخر تلاقيهم بيجروا ويشحططوا وش الفجر يدوروا على دكتور .... اصله قاعد مخصوص مستنيهم مافيش على الحجر غيرهم .... ايه ده  .. ؟ مافيش رحمة ؟ ... مافيش احساس ؟ .... معقولة لسه فيه بنى ادمين بالطريقة دى ؟ .... ولا حتى نزاهة ؟  ... يااخى ده قلته احسن .    يالله ... خليهم يستخسروا وبكرة يحسوا ويفوقوا لما يتلطموا على مايلاقوا دكتور ... ويصرفوا شىء وشويات ... ويعطلوا كمان شغلهم ومدارسهم وجامعاتهم ويقعدوا يداووا ويطببوا , وياريت هايبقى فيه فايدة ...
ساعتها يكون لامؤاخذة فات المعاد على راى الست الله يرحمها بقى .  ساعتها هاتلاقى اسم النبى حارسه الكلب بتاعهم عدم وصدم ويبقوا يشوفوا بقى هايودوا وشهم اللى هايسود من جيرانهم فين .... ولا جيران ايه ؟ ماتلاقى الحال من بعضه  ! ماهى النتانة اليومين دول بقت كوريرا .... ياراجل دى حاجة تجيب الضغط ... بس انا بقى  -  ويشير بسبابته نحو السماء قائلا : " اللهم انى قد بلغت اللهم فاشهد .... اشهد لااله الا الله واشهد ان محمد رسولو وعبدو "  . 
لم ينبس الرجل بحرف واحد ولزم الصمت وكانت الكلمات تخترقه اختراقا كأنها سهام تتحول داخله الى ماهى بمثابة حصوات كلوية متشعبة فى كل اتجاه لتنهش من احشاءه وتنخر فى باطنه نخرا حارقا يصل الى صدره وقلبه , بل ويذهب أبعد من ذلك ليصل الى حلقه فيصيبه بغصة تمزقه والى لسانه ليلجمه وكأنه أصيب بالشلل . اكتفى الرجل بازدراد لعابه من بين فكين مطبقين , يدغدغه التحسر والأسى والتأثر من ضنك معيشته , وضعة حرفته , وخسة تجارتة , التى لاتؤكل ولاتغنى من تبكيت . تناول ماقدمه إليه الجزار وانفلت من بين يديه انفلاتا ولم يشعر بقدميه كيف تقوداه وهو يبتهل الى الله أن يتوب عليه من دى الضيقة ولايرميش فيها عدو ولا حبيب .......                     ناول " أم على " العظم ليكون مصيره " حلة الغلية " التى كانت تئن فوق الموقد عند سقوط الولد على الارض بالقرب منها . ليهب أبوه قائما مذعورا عاريا تماما إلا من عورته التى سترها بطرف خرقة كبيرة - يبدو أنها كانت غطاء لسيارة فيما مضى - تستعمل كغطاء فى الفراش فى هذه " الجحرة " , وكانت قبضة الرجل على طرفها كى لاتنكشف عورته , وبالقرب من قدميه كانت " ام على " ترتجف ارتجافا بين هذه الخرقة التى تشبثت بها وبين كيس كبير من القماش الذى يشبه كثيرا هذه الخرقة الا انه يحتوى على ألوان كثيرة وكل لون يبدو من قماش مختلف جمعته خياطة يدوية بخيط طائرات الورق ليس له لون ولكن يبدو أنه كان فى الاصل ابيض . ويحشو هذا الكيس كل ماهو كان ملبسا ولم يعد صالحا لشىء غير الحشو , ولايفصل هذه المرتبة عن الارض سوى طبقات من الكرتون من كل الاشكال والالوان والاحجام ... أخذت تردد وهى ترتجف بين الغطاء والمرتبة قائلة : " يالهوى .. يالهوى " ثم يتحول ترديدها الى ياساتر ياساتر وهى تنظر بعينيها - كلما جذب زوجها الغطاء  - نحو ملابسها الملقاة على الارض بالقرب منها .                                                            نظر الرجل فى كل ماحوله وكأنه يستكشف هوة سقط فيها ثم استقرت عينيه على الولد وذراعه المكتوى وفمه الذى يسيل منه الدم مختلطا باللعاب , وصندوقه - الذى تبعثرت محتوياته اثر تعثر الولد به -  ثم أخذ فى لطم رأسه معددا:" يابن الحرام , ضعنا وضاع رسمالنه هرست العلب وخربت دارنا ... كنت كمل ع الحلة كمان ويبقى موت وخراب ديار ... عليا الطلاق ماانت دايقها . وبعد مرور عينيه فى أرجاء " الجحرة " مرة ثانية ووقوعها من جديد على زوجته وهى ترتجف  , قال وكأنه انتبه من غفلة : ولا بايت فيها كمان ... يالله .    صرخت " ام على " صرخة مدوية
انتفض منها الرجل ليترك طرف الخرقة ويصرخ عاريا : " فضحتونا ياولاد المفاضيح " وركل زوجته فى وجهها وكاد اصبع
قدمه يفقأ عينها لولا أن أنفها حال بينه وبين ذلك . ثم تبادلت الاقدام الادوار لتصبح الراكلة على الارض وتكون الاخرى من نصيب سعيد الحظ , وكان له فى ذلك الحظ الاوفر بحيث جعلته يتخطى الباب الذى كان مازال مفتوحا ليجد الولد نفسه فى الشارع متجنبا بكل الحرص أن يمس ذراعه شىء .                                 صفع الباب من خلفه صفعة كادت تودى بهذا الباب , بل وبالجحرة كلها وكل من فيها . ولم يكن الصوت ليدل على حال الباب ولكن منحت الطبيعة كل ماهو فارغ خائر صوتا أعلى وأشد من صوت كل ذى حشو متين !                     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق