الثلاثاء، 8 أكتوبر 2013

صوت الكلاب من العاصمة

       الفصل الأول

ابن الكلب
------

يقف " عم ابراهيم " فى شارع صغير فى حى " المهندسين " .
الشارع نظيف وهادىء تمر منه سيارات الحى لاتخاذ طريقا رئيسيا بعد ذلك ....
يضع " عم ابراهيم " صندوقا خشبيا فوق الرصيف مصفوفا من فوقه معلبات بأشكال مختلفة أغلبها يحوى صورا نادرا ماتكون لغير القطط والكلاب ، وأختاما كثيرة تدل على أن العلب مستوردة ، خالصة الجمارك ، معلومة المنشأ والوسيط فى استيرادها وصلاحيتها ، وغير ذلك من ضمانات لاتشوبها شائبة .
يمر عملاء " عم ابراهيم " بسياراتهم ويتوقفون بالقرب منه ليبادر بالتوجه اليهم واستبدال هذه العلب بعلب أخرى ليست لديهم حاجة اِليها بسبب عدم اِقبال كلبهم أو قطتهم عليها ، أو أن يكون الطبيب - طبيب كلابى طبعا - كان قد نصح بعدم تقديمها للحيوان وتقديم نوع آخر ، كذلك - وهو الغالب - كانت تستبدل هذه العلب ببواقى علب لم يستكملها الحيوان , نظرا لأنه يتناول فى الوجبة الواحدة أكثر من صنف فهو بذلك لايأتى على كل علبة بأكملها . وكان كثيرا   مايستبدل " عم ابراهيم " هذه العلب مع فارق نقدى يؤده العميل اليه أو بدون فارق ، وقليل جدا ماألزمه العميل بتأدية فارقا لصالحة مؤكدا له فى كل مرة على السعر الذى اشترى به ، وكيف أنه بذلك سوف يضطر الى  التعامل مع غيره ، فكان " عم ابراهيم " يؤدى هذا الفارق عند اضطراره لذلك اضطرارا مع شعور بالحيرة فى أمره وتوقعا لخسارة قد يندم عليها. وهو يضطر لذلك خوفا من أن يؤدى اصرار العميل الى عناد قد يفقده الصفقة كلها أو - وهو أشد مايخشاه - أن يفقد العميل نفسه خاصة بعد ظهور كثير من المنافسين له .... ونظرا لريادة " عم ابراهيم " لهذه المهنة ومعرفة كثير من العملاء به فقد كان هؤلاء المنافسون يبالغون فى جذب العميل وتدليله ولو كان فى ذلك ضررا بهؤلاء  المنافسين فان مؤداه الحاق ضررا أكبر "بعم ابراهيم " قد يؤدى الى افلاسه وهجرة للمهنة وبعد ذلك تكون المنافسة مع خصم واحد وهو العميل .  وكان " عم ابراهيم " يقوم بعرض العلب المغلقة التى لايعيبها عيب ولم يلحق بأختامها أى ضرر مرة أخرى للبيع أو الاستبدال ، أما بالنسبة للفضلات والعلب الغير مكتملة فكانت تجمع آخر اليوم لتوريدها الى المتعهد الذى يقوم بدوره ببيعها مباشرة لعملائه الذين لايستطيعون شراء علبا كاملة من هذه الأصناف الجيدة . وكثيرا ماكان يتمنى " عم ابراهيم " أن تتوسع تجرته ويصبح فى النهاية مثل هذا المتعهد الذى يذهب إليه معظم الربح والذى طالما رآه يساوم عملائه بكثير من التعالى واظهار عدم الرغبة فى البيع وهم يضطرون لتقبل كل ذلك بكثير من المرونة التى يشوبها بعض التذلل ، فذلك أفضل كثيرا من ان تكون كلابهم أقل شانا فى أكلها عن بقية الكلاب مثلها . كان " عم ابراهيم " يقيم بحى " ميت عقبة " الذى لايفصل بينه وبين حى " المهندسين " شىء غير المستوى المادى والاجتماعى ، وكأن الحيان بمثابة قطبى مغناطيس وقد تجاذبا والتصقا نتيجة تضادهما ، فكان يعود الى بيته سيرا فى نهاية يوم عمله لتناول غداءه الذى كثيرا ماكان يؤجله حتى ينتهى من عمله ومقابلة آخر عميل يتوقع استقباله . وبعد تناول غدائه ، وشرب كوبا من الشاى مع تدخين "حجرا " من " المعسل" ، ولبس جلبابه الذى كان قد خلعه قبل الجلوس على " الحصيرة " يقوم بحمل بضاعته والتوجه بها الى المتعهد . كان يفعل كل ذلك بسرعة تلقائية اكسبتها له العادة وحثه الحذر عليها فكلما كان الوقت مبكرا كلما تخلص منها بسهولة وبسعر أفضل والا فسوف تتردد علي مسامعه كلمات كثيرا ماجعلته يبكى من غير بكاء ظاهر ولكن بكاءه كان بداخله لايشعر به أحد سواه فقد كان حريصا كل الحرص ألا يشعر به المتعهد الخبير بممارسة الضغوط على من يحتاج . ورغم تردد تلك الكلمات على مسامعه أكثر من مرة إلا أنها لم تفقد وقعها وتأثيرها فى الرجل . فكان يتجنب كل ذلك " بالمشى فى طريقه العدل حتى يحتار المتعهد فيه " ،" وكفى الله المعجلين شر الابخاس " . كانت أيامه لاتتغير بأحداثها ووتيرتها بخلاف بعض الأحداث العابرة التى - حتى الآن - لم تغير من وتيرة حياته مثل الذى حدث هذا اليوم مثلا ، فقد كان يتناول غداءه كعادته بينما ينتظره أولاده وأمهم حتى ينتهى من مهمته الروتينية ثم يقومون بعد ذلك بتناول غداءهم أثناء شربه للشاى أو بعد رحيله ، المهم أن لايعطله شىء عن أداء مهمته بسرعة حيث إن تاديتها بسرعة فيه كل الفائدة واحلال كل الضرر عند الاخلال بها والذى طالما حذرهم منه الرجل . حدث فى هذه الاثناء أن غلب الجوع " عليا " - الابن الأصغر - وراودته رغبة فى تذوق ماتحويه العلب وزادت تلك الرغبة فى الحاحها على الولد حيث كان الغداء الذى ينتظرونه عبارة عن فول " مدمس " وجبن " قريش " - أحضره قريب لهم من بلدتهم . الفول الذى لايعتبره " على " من الأصناف حيث يقدم فى كل الوجبات - مثل الخبز تماما - والجبن " القريش " الذى لايحبه ولايستطيع بأى حال من الأحوال أن يأكله مع الخبز ، وقد حدث ذات مرة أن نهرته أمه بشدة عندما أكل قطعة من الجبن بدون خبز . كان الضيف الذى يزورهم قد أحضر هذا الجبن على سبيل الزيارة ، وهى لم تكن فى الحقيقة زيارة من هذا الذى هو بلدياتهم وإنما كانت بمثابة إقامة مرهونة حتى يستطيع " عم ابراهيم " ايجاد فرصة عمل له وإن كان أفضلها العمل كبواب أو خفير عند " ولاد الناس " من معارف "عم ابراهيم " - وهم كثر- ففى هذا النوع من العمل تكون الاقامة محل العمل للضيف الذى فرض نفسه فرضا عليهم بعدما ضاقت به بلدته وأغشت عينيه الحكايات التى سمعها عن " ابراهيم " الذى كان قد رآه فى البلدة مرتين او ثلاث مرات على الاكثر طوال حياته ولكن التملص فى هذه المواقف هو المستحيل ولم يملك الرجل سوى الامتثال لقضاء الله وقدره وهو يسمع الضيف بعد السلامات والتحيات والأحضان يقول : " هو دا ياخويا كل اللى شفته من قلالات الأصل ، قلت انزل لاخويا هو أولى بيا وانا عارف ياخويا الناس الأصيلة اللى زيك اللى ف جيبها موش ليها وتطلع اللقمة من بقها وتديها لغيرها ، والجبنة دى مرات اخوك عاملاها لكم مخصوص بأيديها .... معلش أهى حاجة موش قد المقام ، لكن الجايات أكتر من الرايحات .... " . وكان اجتماع الفول " المدمس " مع الجبن " القريش " يمثل سوء الحظ وخيبة الأمل للولد و " قليل البخت يلاقى العضم فى الكرشة ............ ! " . قام " على " وتوجه ناحية الحمام الذى يفصل بينه وبين الحجرة ستار من الخيش المتسخ الذى يبدو أنه لايغسل أبدا ولايتغير إلا إذا تمزق وكشف من وراءه ، وفى الداخل حفرة صغيرة على جانبيها قالبين من الطوب الأحمر وقد غاصا فى الأرض وكادا يتساويان بها وبالقرب منهما يوجد دلو بلاستيكى من فوارغ أدوات الدهان به شرخ علوى يجعله يحتفظ بنصف حجمه من الماء ، وبداخله علبة من الصفيح غير مستوية الشكل وقد أكل الصدأ معظم لونها ولكن يبدو أنها كانت من معلبات أكل الكلاب . بعد خروج الولد لم يعد إلى مكانه السابق فقد كان صندوق العلب موضوعا فى ركن تعمد المرور به أثناء العودة وجلس بالقرب منه مستندا ظهره على الجدار وأخذ يتزحزح بحرص شديد حتى لاصق الصندوق وظل ملتصقا به حتى يكون حجمه بالاضافة إلى حجم الصندوق شاغلا أقل حيز ممكن ، وبعد مراقبة جميع الحضور والاطمئنان لسير الأمور بطريقة طبيعية بدأ يمد ذراعه القريب من الصندوق وشرع فى التقاط بعضا من علبة مفتوحة باصبعين - وكأنه طبيب يلتقط جنينا من رحم أمه - أو بثلاثة اصبع إذا كانت " الحالة متعثرة " ثم يقوم باعادة يده لتستقر قطعة فى فمه . كان يؤدى ذلك المشهد - فى رحلة ذهاب يده خالية نحو الصندوق وعودتها بما تشتهيه نفسه إلى فمه غانمة ظافرة  ببطء شديد ، مؤثرا التأنى - رغم لهفته الشديدة - الذى فيه السلامة على العجلة التى قد تؤدى إلى ندامة مابعدها ندامة إذا افتضح أمره . كانت خطة محكمة أيما احكام أوتي صبى فى الثانية عشر ، لم ينل أى حظ من التعليم ولكن بدأت الحياة تسطر أولى كلماتها فى سجل براءته وأخذ ألم الجوع والحاجة فى غرس بذرة الحنكة فى نفسه لتبدا فى جنى أولى ثمرات تلك الحنكة التى - وإن كانت ماتزال غضة -  تنبىء عن كوامن القدرات التى يثيرها الألم فيجعلها بمثابة نواة ذرة تنطلق من مكمنها عند انفجار تلك الذرة ،" فالحاجة أم الاختراع ". لكن " تاتى الرياح بما لاتشتهى السفن " ، فقد كان "على" قد وضع ثالث قطعة فى فمه وبدأ فى مضغها بينما يتابع ذراعه رحلة العودة أثناء المضغ بحساب دقيق للزمن الذى يستغرقه الذراع فى رحلة الذهاب والعودة بحيث تكون القطعة التالية  مستقرة فى الفم أثناء بلع القطعة السابقة وكأن ذراعه وفمه جهازين منفصلين يعمل كل منهما فى نظام دقيق وتوافق بحيث يكون التقاءهما فى النهاية فى لحظة معلومة وكأن لحظة وصول القطعة إلى الفم هى محور هذا النظام ، وكل شىء فى الولد قد تلقى الأمر بعدم الحركة ، بخلاف عينيه التى كانتا تتحركان بانتظام دورى داخل رأسه الثابت وكأنه " برج المراقبة " . حدث فى هذه الأثناء أن وقعت قطعة من الفحم المشتعل التى كانت تضعها أخته على "حجر المعسل " فقام أبوها بنفض "الحصيرة " لابعاد قطعة الجمر عنها لتطير وتستقر على الأرض بالقرب من " قليل البخت المخترع " والذى لم يتوقع حدوث مثل هذه الثغرة ولم تسعفه بديهته لمواجهة هذه الكارثة . اسرعت البنت لالتقاط قطعة الفحم فلمحته اثناء نهوضها وقد اغمض عينيه ليهرب إلى داخله . تركت البنت الجمرة لتسقط على الارض ثانية ولطمت صدرها وصرخت قائلة : " يخرب بيتك ياعلى ... بتاكل من العلب بتاعة ابوك !؟ " . هب الرجل نحو الولد وصاح وهو ممسكا به دافعا اياه نحو الباب المغلق - الذى ارتطم به الولد اثر دفعه -  وقال : " خربت بيتنا ياوش الخراب ... اللى طفحته دا يتباع وياكلنا كلنا .... والله ماانت متغدى ولا متعشى .... غور برة ياابن الكلب . خرج الولد وبدأ يحرك فمه وأخذ فى مضغ القطعة التى كان قد قرر أن يبتلعها إذا أصر ابوه وطلب منه اخراجها من فمه ثم سمع اباه فى الداخل وهو يصيح فى زوجته قائلا : " يابت ده ابن كلب هايخرب بيتنا " . بلع الولد القطعة التى بالغ فى مضغها وقد كان يتمنى أن تبقى فى فمه بقية اليوم وقال بصوت ضعيف لايسمعه أحد : " ابن كلب ؟ " ثم وجه بصره إلى لاشىء وقد غلب عليه البكاء وقال بصوت لايسمعه غيره :
 " لو كنت ابن كلب صحيح كانوا سابونى اكلها ! "

--------------
بقلم الشاعر : محمد اليمانى

الفصل الثانى

الفصل الثالث

الفصل الرابع

مدونات لنفس المؤلف :

 أم الدنيا MON EGYPTE

هناك تعليق واحد: